تحقيقات وتقاريرعام

صلاح رشاد .. يكتب: الملك العضوض والأثمان الباهظة (56)

حكاية الرشيد مع الخمر

من الظلم وعدم الإنصاف أن ينسب لهارون الرشيد أنه كان يشرب الخمر، فالخليفة الذي كان يصلي في اليوم مائة ركعة نافلة غير الفريضة، إلا إن تعرض لعلة، ويحج عاما ويغزو عاما، ما كان له أن يرتكب هذه الكبيرة التي تورده موارد التهلكة.

يقول العلامة ابن خلدون: «حاشا لله أن يحكى عن معاقرة الرشيد للخمر، ما علمنا عليه من سوء، في ظل قيامه بما يجب لمنصب الخلافة من الدين والعدالة، وما كان عليه من صحبة العلماء والأولياء، ومحاورته الفضيل بن عياض وابن السماك، وبكائه من المواعظ ودعائه بمكة في طوافه .. وعبادته وتنفله.

وقال ابن خلدون: إنما كان الرشيد يشرب نبيذ التمر على مذهب أهل العراق، وفتاواهم فيها معروفة، أما الخمر الصرف فلا سبيل إلى اتهامه بها.

وهنا نطرح سؤالا ما هو نبيذ أهل العراق؟

هناك أقوال للعلماء في نبيذ أهل العراق، فقد أباحوه إذا طبخ النبيذ دون أن يصل إلي مرحلة الغليان، أما إذا طبخ وغلا ووصل إلي درجة يسكر منه كثيره فهو حرام لأن ما أسكر كثيره فهو حرام .

والرشيد كان يشرب النبيذ المباح بدليل أن كل المواعظ التي تلقاها من صالحي الأمة في زمنه مثل الفضيل بن عياض وابن السماك لم يطلب منه أحد أن يكف عن شرب الخمر أو ينهاه عنها لأنه لم يشربها أصلا والله أعلم. 

قال حجة الإسلام أبو حامد الغزالي: حُكي عن إبراهيم بن عبد الله الخراساني أنه قال: حججت مع أبي سنة حج هارون الرشيد فإذا نحن بالرشيد وهو واقف حاسرٌ حافٍ على الحصباء، وقد رفع يديه وهو يرتعد ويبكي ويقول يا رب أنت أنت وأنا أنا، أنا العوّاد إلى الذنب وأنت العوّاد إلى المغفرة، اغفر لي”.

وذكر الخطيب البغدادي في «تاريخ بغداد»: «حكى بعض أصحاب الرشيد أنه كان يصلي في كل يوم مائة ركعة إلى أن فارق الدنيا، إلا أن يعرض له علة، وكان يتصدق في كل يوم من صلب ماله بألف درهم، وكان إذا حج أحج معه مائة من الفقهاء وأبنائهم، وإذا لم يحج أحج في كل سنة 300 رجل بالنفقة السابغة والكسوة الظاهرة.

هل يعني ذلك أن الرشيد كان زاهدا؟

لا طبعا .. كان ملكا مرفها، ويجب أن نضع في اعتبارنا أن الرشيد تولي الخلافة شابا في عنفوان شبابه، فتمتع باللهو المباح مثلما تمتع به من قبل أخوه موسي الهادي وأبوه محمد المهدي، فكان الرشيد من أجيال الملوك المرفهين المنعمين ولا لوم عليه في ذلك، طالما أنه لم يقترف حراما تطبيقا لقول الله عز وجل “قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق”.

أما إذا كان قد اقترف حراما فحسابه عند ربه الذي سترد عليه الخلائق أجمعين ويحاسبون علي ماكسبت أيديهم .. «وما ربك بظلام للعبيد».

ويحسب للرشيد أنه كان يضرب علي البدع بيد من حديد، وكان أهل البدع في الجحور خلال عهده الذي امتد 23 سنة، حتي قال العالم العابد الزاهد الفضيل بن عياض: لو كانت لي دعوة مستجابة لكانت للرشيد فاندهش أصحابه، فقال لهم: سترون ما يكون من بدع بعد الرشيد، وعندما سيطر المعتزلة علي المأمون وقالوا بخلق القرآن وكانت المحنة الكبري التي زلزلت العالم الإسلامي في المشرق والمغرب من مشرقه إلي مغربه، قال أصحاب الفضيل: صدق الفضيل، فلم يكن أحد من المعتزلة يجرؤ علي الجهر بعقيدته الفاسدة في عهد هارون الرشيد.

وفي الحلقة المقبلة إن شاء الله نعاود الحديث عن البرامكة ونكبتهم المحيرة التي تحمل من الألغاز الشيء الكثير.

Follow us on Google News Button

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى